الباحثون عن عار الكفيل

بقلم  نبيل شرف الدين

سنوات طويلة راحت هباء، وأطنان من الدماء والأحبار أريقت، وأعمار وأحلام تبددت في اللهاث وراء «خرافة العروبة»، ومع ذلك يصر البعض علي البحث عن «كفيل» كأننا أمة لقيطة، لا تحمل علي ظهرها تراثاً حضارياً لا تدانيه العروبة ولا غيرها عراقة وأصالة،

وكي لا ننزلق إلي متاهة اللغو والخطب الجوفاء ينبغي بداية التأكيد علي أن الهوية لا تتأسس علي قرار سياسي، بل هي وعي بالذات، ولو سألنا أي عابر سبيل في شوارع القاهرة أو المنصورة أو أسيوط، سيقول ببساطة وتلقائية: «نحن مصريون»، وعن جيراننا في السعودية والخليج: «العرب».

وحتي نقطع الشك باليقين في مسألة الوعي بالذات والآخر، دعونا نتحل ببعض الشجاعة في الإجابة عن سؤال حول صورة المصريين في مخيلة أشقائهم في الخليج والسعودية، وحتي في فلسطين وليبيا، سنكتشف ببساطة أنهم يرون أن المصريين «أفاقون محتالون متسولون»،

 ولعل الأغنية المنحطة التي يجري تداولها علي نحو واسع في العشرات من مواقع الإنترنت والمدونات وحتي عبر الهواتف النقالة، لفريق سعودي يدعي «وكر العصفور»، وتحمل اسم «نورت مصر» وتتضمن كلمات بالغة البذاءة والسوقية بحق المصريين، من طراز «شحاتين حرامية نصابين نشالين بلطجية قوادين.. الخ».

وليت الأمر توقف عند حدود نكران الجميل الذي قدمه جيل الآباء ممن أفنوا زهرة شبابهم لتعليم أشقائنا في الخليج، وتأسيس جامعات ومستشفيات، وتشييد أبراج وقصور، وغيره مما لا حصر له من مظاهر كافة التحضر، وكانت النتيجة أن المصريين الآن باتوا متهمين بأنهم أفسدوا التعليم في الدول العربية، بل خربوا الإعلام هناك، وصدروا الإرهاب لبلادهم الآمنة، وأشاعوا الفحشاء والموبقات بإنتاجهم الفني، و.. و.. مما يعف اللسان عن ذكره.

والحاصل ببساطة أننا لم نتعلم من تجاربنا السابقة، فقد جربنا «عار العروبة» ولم تكن أكثر من محاولة بائسة للتسول علي ثقافة لسنا منها في شيء، وليست منا في شيء، وإذا كنا حقاًً أصحاب مصلحة فيما يجري بالإقليم من أحداث، فما المانع أن نتعامل معها كما نتعامل مع تركيا وإيران واليونان، خاصة أن هذه بلدان صديقة تربطنا بها أيضاً علاقات تاريخية وطيدة، أم أنه ينبغي علينا التمسح في أصول حضارية أخري ليست أكثر رقياً من أصولنا، بل العكس هو الصحيح.

فهنا علي ضفاف النيل أشرق فجر الضمير علي الإنسانية، وهنا نشأت عقيدة البعث والنشور والحساب وميزان القلوب، بينما لم نجن من التسول علي الهوية العربية سوي الحصرم، فمازلنا في نظر العربان مجرد «فراعين» بكل ما تحمله هذه الكلمة من إدانة وتحقير، تختزل حضارة عظيمة امتدت زهاء ثلاثة آلاف عام في رواية «توراتية الجذور»

عن فرعون الخروج، دون أن يجزم أحد بهوية هذا الفرعون المزعوم الذي أصبح في هذه الثقافة رمزا للطغيان، وهو ما تدحضه عشرات الشواهد التاريخية والآثار الموثقة، التي تؤكد أن ما شيده المصريون القدماء لم يكن قصوراً ملكية، بل هو معابد ومقابر مرجعيتها الإيمان، مما يؤكد أن العقيدة المصرية كانت هي الدافع الحقيقي وراء بناء الأهرامات والمسلات والمعابد الشامخة.

وحين ننتقل من التاريخ إلي الحاضر، فحدث ولا حرج، من سفيرنا بالعراق الذي اختطف وذبح، لوزير خارجيتنا الذي ضرب بالنعال في باحة الأقصي، وصولاً لجنودنا في رفح الذين قتلوا برصاص الفلسطينيين، فضلاً عن أبنائنا الذين دهستهم سيارات الخلايجة الفارهة، وبناتنا اللاتي صرن أهدافاً مستباحة لإغراءات سماسرة الأعراض إرضاء لنزوات شيوخ النفط، ناهيك عن إهانات تصل لحد العار، ومظالم لا حصر لها للمصريين العاملين في الخليج وحتي ليبيا، ومضارب العربان كافة.

سيقول قائل إننا عرب لأن عشرات القبائل العربية هاجرت واستقرت علي ضفاف النيل عبر حقب تاريخية مضت، لكن هذا مجرد سطر واحد من كتاب الحقيقة، أما بقية السطور فتؤكد أن العروبة لم تكن أكثر من محطة في تاريخ مصر العريق، الذي يمتد آلاف السنين، وشهد حضارات فرعونية وإغريقية ورومانية وقبطية، وليس من العدل إعلاء الرافد العروبي الدخيل علي غيره من الروافد الأكثر أصالة وتجذراً.

وقد يقول آخر إننا عرب لمجرد أننا نتحدث اللغة العربية؟

لكن اللغة ليست محدداً حاسماً في مسألة الهوية، فسويسرا تتحدث أربع لغات وكندا تتحدث لغتين، وأمريكا اللاتينية تتحدث الأسبانية والبرتغالية دون أن يجرؤ أحد علي وصف هوية تلك الأمم بالفرنسية أو البريطانية أو الأسبانية، وحتي بلدان أفريقية كغانا التي تتحدث الفرنسية،

وكينيا التي تتحدث الانجليزية، وبالطبع فهي ليست فرنسية ولا أنجلوساكسونية، فاللغة ليست أكثر من وعاء لا صلة له بالمضمون الحضاري، كما أن اللهجة المصرية لايمكن اعتبارها عربية خالصة، فهناك دراسات رصينة تؤكد أن اللهجة المصرية هي الطبعة الأحدث من القبطية، وهذه بدورها هي الإصدار الأخير من المصرية القديمة.

وأخيراً، يبدو ـ والله أعلم ـ أننا بحاجة إلي إعادة قراءة ما كتبه شيخنا طه حسين في كتابه العمدة «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي يقول فيه بلغة واضحة «إن سبل النهضة واضحة بينة مستقيمة لا عوج فيها ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، ومن زعم لنا بغير ذلك فهو إما مخادع أو مخدوع».

ولعل هذه المصارحة التي تقف خلفها رؤية ثاقبة وشجاعة فكرية نادرة، كان طبيعياً أن تثير الغوغاء والببغاوات ضد الرجل الفذ الذي امتلك ناصية البصيرة فأهانه «عسكر يوليو» وعيروه بالعمي، في وقت كنا بحاجة فيه لبعض شجاعة هذا «الأعمي»، لنعيد تقويم ما يجري بعيداً عن الخرافات والبروباجندا الفارغة.


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com