وداعا بانوب شحاتة...

بقلم منير بشاى

  

 

          لعله من أصعب الأمور على النفس المشاركة فى مواقف الوداع، وربما أصعبها هو توديع الأحباء إلى مثواهم الأخير. جميعنا نقوم بهذا الواجب رغم صعوبته لأنه لازم وضرورى. أما بالنسبة للخادم الأمين بانوب شحاتة وزوجته الفاضلة مدام راندا، فالقيام بمثل هذه الواجبات كان جزءا طبيعيا من حياتهم عملا بقول الكتاب المقدس "فرحا مع الفرحين وبكاء مع الباكين". فلا أظن أنهما أهملا القيام بهذا الواجب يوما حتى بالنسبة لغير المقربين لهم. وبالأمس ذهبنا لتوديع صديق عزيز، ونظرت إلى جمهور المعزين الذين إمتلأت بهم قاعة الكنيسة، وعادة كنت أرى بانوب شحاتة ضمن الحاضرين، ولكن هذه المرة تختلف، لأننا أتينا لتوديع بانوب شحاتة نفسه.

  كانت تربطنى بالرجل صلة حب قوية. كنت أجد متعة فى الجلوس معه وتبادل الحديث. كانت كلماته دائما تحمل حكمة عميقة وعلما غزيرا ورأيا راجحا. وكان أيضا لذيذ المعشر بشوشا دائم الإبتسام، يتذوق الفكاهة ويجيد روايتها، ويضحك مع الناس وليس على الناس. وأذكر أننى تقابلت معه ومع زوجته مرة وكانا قد إحتفلا حديثا بعيد زواجهما الخمسين. ووجدتها فرصة لمداعبتهما فقلت له "خمسين سنة زواج!! أنت تستحق الجنة على هذا..."  إبتسم ولم ينطق بكلمة. ولكن السيدة راندا أجابت "لماذا هو وحده الذى يستحق الجنة؟ أنا كمان..." فبسرعة أجبت "بالتأكيد أنت أيضا". وطبعا كانت هذه مجرد دعابة من نوع الفكاهات التى يتبادلها المتزوجون أحيانا. ولكن فى الحقيقة لم أعرف زوجين كانا أسعد فى زواجهما أكثر من بانوب وراندا. عاشا معا يساند الواحد الآخر فى رحلة جهاد طويلة دامت نحو ٥٦ عاما. وعندما داهم المرض بانوب وقع العبء كله على أكتاف راندا التى تحملته بكل حب وصبر وشجاعة ولم تشكو أو تتذمر يوما.

          قصة حياة بانوب شحاتة طويلة ومثيرة تشبه كثيرا حياة العصاميين الذين صنعوا أنفسهم بقوة الله. وأرجو أن يأتى وقت تتاح لنا أن نقرأ قصته كاملة فى شكل كتاب . ولكن لغرض هذا المقال سأسجل بعض اللقطات السريعة وهى مستقاة بتصرف من النشرة التى أصدرتها الأسرة عن حياته باللغة الإنجليزية.

          ولد بانوب شحاتة فى ٢٥ يوليو ۱٩٢۱ من أسرة فقيرة فى مدينة المنصورة شمال مصر. دخل المدرسة واستمر فيها حتى سن الحادية عشر وقبل إمتحان الشهادة الإبتدائية لم يتمكن من دخول الإمتحان لأن أسرته لم تكن تمتلك رسوم الأمتحان البالغة حوالى جنيهان، وهو مبلغ كبير بمقياس ذلك الوقت. فى سن ۱٣ إنتقلت الأسرة إلى مدينة المحلة الكبرة حيث وجد بانوب عملا فى مصنع للغزل والنسيج كان قد أفتتح حديثا. وكان الفتى بانوب يعمل وردية ۱۲ ساعة ويعطى دخله الصغير كله لأسرته للمساعدة فى إعالة والديه وإخوته السبعة. وخلال هذه الفترة كان يحضر مدارس الأحد وتوطدت علاقته بالمسيح وزاد حبه للكنيسة. ومع عدد من الأصدقاء، ظهرت بوادر حب بانوب لخدمة المحتاجين عندما أسسوا جمعية أسموها " الجمعية القبطية الأرثوذكسية للغرباء" وأعطوها شعارا الآية التى تقول "غريب أنا فى الأرض لا تخف عنى وصاياك" (مزمور ۱۱٩:۱٩) ومع أصدقائه كان بانوب يزور القرى المحيطة يقرأ الكتاب المقدس للفلاحين الذين لا يجيدوا القراءة والكتابة. وكان من ضمن هذه المجموعة صديقه عبد المسيح بشارة الذى أصبح فيما بعد نيافة الأنبا أثناسيوس مطران بنى سويف. ومع الخدمة إستمر بانوب فى تعليم نفسه فاشترك فى دروس المراسلة البريطانية حيث إستطاع تعلم اللغة الإنجليزية وأيضا مبادئ المحاسبة والإقتصاد التى ساعدته كثيرا فى مشاريعه المستقبلية.

          فى سنة ۱٩٤٠ إنتقلت الأسرة إلى مدينة كفر الدوار للعمل فى مصنع جديد بمرتب أكبر. هناك أيضا كون مع أصدقاءه جمعية جديدة أسموها "رابطة الشباب القبطى" وشارك فى خدمة المحتاجين والتدريس فى مدارس الأحد. وكان من ضمن المشاركين معه شاب إسمه صبحى سعد الذى أصبح فيما بعد الأب ميخائيل سعد كاهن كنيسة سموحة بالإسكندرية ووالد الخادم المعروف دكتور سعد ميخائيل سعد.

          ونتيجة للغارات الجوية فى الحرب العالمية الثانية إضطرت الأسرة أن تنتقل إلى مدينة القاهرة والتحق بانوب بوظيفة أخرى فى صناعة الغزل والنسيج بمصنع فى شبرا الخيمة. واستطاع أن يعلم نفسه اللغة الفرنسية التى أضافت إلى المهارات التى ساعدته فى مستقبل حياته وأهلته إلى أن يتحول إلى العمل فى مجال المحاسبة لعدة مؤسسات.

          فى السنوات من ۱٩٤٢ – ۱٩٤٨ كان بانوب نشطا فى عدة كنائس فى القاهرة وساعد فى إنشاء خدمة مدارس الأحد فى كنيسة الفجالة وكذلك الخدمة بين الشباب. بعدها أسس "جمعية ثمرة مدارس الأحد" ليستطيع أن يجمع التبرعات بطريقة قانونية ويرسلها إلى المحتاجين، وما تزال هذه الجمعية مستمرة حتى يومنا هذا.

          فى سنة ۱٩٤٨ عرض على بانوب فرصة للعمل كضابط فى النقل البحرى وعندما أكتشف صاحب الشركة كفاءته التجارية طلب منه أن يؤسس فرعا للشركة فى أثيوبيا. بعد وصوله إلى أثيوبيا أحس بانوب بمأساة الأطفال المهملين هناك ومع صديقه إدوارد بنيامين أسس ملجأ لرعاية البنات كان يعتنى بمئات الأطفال. وهناك أسس أيضا مع بعض أعضاء الجالية القبطية أول كنيسة قبطية أرثوذكسية فى إثيوبيا وأيضا أول إذاعة باللغة العربية كانت تغطى المستمعين فى منطقة شرق إفريقيا.

          فى سنة ۱٩٥٣ تزوج بانوب من رفيقة جهاده راندا شكرى. وفى سنة ۱٩٥٨ إنتقلا مع اسرتهما إلى بيروت حيث أصبح بانوب رجل أعمال ناجح. وقد أسس كنيسة القديس مرقس للأقباط الأرثوذكس هناك وهى الأولى من نوعها فى لبنان وما تزال قائمة إلى اليوم. وهناك ساعد بانوب الأقباط الذين كانوا يذهبون إلى لبنان طلبا للجوء إلى أمريكا وكان يدبر لهم مكانا للمعيشة أحيانا لمدى شهور قبل سفرهم.

          وفى سنة ۱٩٦٦ فقد بانوب كل ثروته المودعة فى أحد البنوك ببيروت حين أعلن البنك إفلاسه فجأة ودون سابق إنذار. ومع الصدمة العنيفة أعطاه الرب نعمة ليتقبل الأمر ويبدأ من جديد مرددا مع أيوب " الرب أعطى والرب أخذ فليكن إسم الرب مباركا" أيوب ۱:٢۱ واستمرت الأسرة فى لبنان حتى قيام الحرب الأهلية هناك فى أبريل ۱٩٧٥ ومرة أخرى فقد بانوب كل ما يملك ولكن لم يفقد إيمانه أو إحساسه بالشكر لله.

          فى سنة ۱٩٨٠إستطاع بانوب أن يحصل على تأشيرة للهجرة إلى أمريكا وانتهى به المطاف فى لوس أنجلوس حيث أسس له ولأسرته بيتا يعيشون فيه ومشروعا تجاريا يرتزقون منه. وفى لوس أنجلوس مارس بانوب هوايته المفضلة فى رعاية أخوة الرب المحتاجين داخل مصر أو من القادمين الجدد إلى لوس أنجلوس فأسس مع آخرين "الجمعية المسيحية للخدمات الإجتماعية" كذا أسس مشروع بنك الطعام الذى يقدم الطعام للأسر المحدودة الدخل. وكان بانوب خادما أمينا للكلمة وشارك فى تأسيس إجتماعات لدرس الكتاب. وساهم فى نشر الكلمة المكتوبة بإصدار النشرات مثل نشرة "طوباكم".

          فى سنة ۲۰۰١ بدأت معركة بانوب مع مرض الفردوس (السرطان) الذى تحمله بشجاعة فلم يفقد يوما مرحه ولم تفارقه إبتسامته. وقد أعطته فترة المرض الفرصة أن يصفى أعماله وأن يرتب مستقبل ما بدأ من خدمات حتى يضمن استمراريتها من بعده. وفى يوم الأحد أول مارس ۲۰۰٩ تقابلت مع إبنه الأصغر فادى وسألته عن أحول أبيه وطلبت أن يبلغه سلامى. ولاحظت أن فادى كان يحمل معه نسخة من كتابى الأخير "هموم قبطية". قال لى أنه سيأخذ الكتاب إلى أبيه ليقرأه وهو فى سرير المرض. وكم كان شعورى غامرا بالسعادة أن يأخذ هذا الكتاب بركة هذا الرجل العظيم قبيل رحيله. وفى ١۲مارس۲٠٠٩ فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها بينما كانت أسرته إلى جواره " ومات (بانوب)  بشيبة صالحة وشبعان أيام" تكوين ۲٥ : ٨

          أخونا الأكبر بانوب: لقد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعى، وحفظت الإيمان وقد آن الوقت لك أن تستريح. "طوبى للأموات الذين يموتون فى الرب منذ الآن. نعم يقول الروح لكى يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم" رؤيا ۱٤:۱٣ أعمالهم نتبعهم حيث هم فى السماء، وتخلدهم حيث نحن على الأرض.

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com